23 Mar
23Mar

- ماما.. أين ذهب جدي؟ لماذا لم يعد يزورنا منذ كان مريضا؟!
سألت (مروة) الصغيرة أمها هذه السؤال بكل عفوية؛ فكفكفت أمها دمعة فرت من عينيها، وهي تبتسم مرغمة لوجه طفلتها الذي يشع براءة، قبل أن تجيبها:
- غدا عندما تكبرين تعرفين.
بالطبع لم تكن إجابة وافية، إلا أن (مروة) -كعادة الأطفال- انشغلت سريعا بدميتها، وبعد أقل من دقيقة، التفتت من جديد إلى أمها وهي تهدهد دميتها سائلة:
- ماما.. من أين جئتِ بي؟
لم تكن الأم قد خرجت بعد من الحالة النفسية التي وضعتها فيها ابنتها عندما ذَكَّرتها بوالدها المتوفى منذ أيام معدودة.. لذا لم يكن لديها الاستعداد النفسي في هذه اللحظة لمحاولة تبسيط مفاهيم الحياة لابنتها ذات السبعة أعوام؛ واكتفت بالإجابة السهلة:
- غدا عندما تكبرين تعرفين.
ومن جديد سرعان ما انشغلت (مروة) في فيلم الكرتون الذي بدأ لتوه... وإن ظل كلا السؤالين قابعان هناك في أعماقها، ينتظران الخروج ثانية في مناسبة أخرى.. هذا ديدن الأطفال..

كانت معظم أسئلة (مروة) من الطراز الذي إجابته: "غدا عندما تكبرين تعرفين"؛ وكان ما يشغلها حقا هو معنى تلك الإجابة، ففي كل مرة كانت تنام لتستيقظ في اليوم التالي الذي هو (غدا)، لتكتشف - ويا للعجب - أن شيئا مما قالته الأم لم يتحقق، فها هو (غدا) قد جاء، فلا هي كبرت، ولا هي عرفت!!!
أما عن أسئلتها تلك، فكانت لـ(مروة) وسيلتها الخاصة للإجابة عنها..
إنه "الباب المسحور"..
ذلك الباب القديم المتهالك ذي المصراعين الذي يقبع أسفل أحد سلالم مدرستها.. كانت تلمحه في صعودها وهبوطها، وتظل عيناها متعلقتان به.. تتخيل خلفه حكايات وحكايات.. كانت تظنه يقود إلى دهليز خفي - أسفل المدرسة - تسكنه الجنيات والأشباح والوحوش الأسطورية، وكل ما يمرح من كائنات في عقل طفلة صغيرة.. عقل صغير لكنه باتساع الكون ذاته؛ أليس الكون لا تحده حدود معلومة؟ وكذلك كانت أفكارها!!
أحيانا كانت تظنه يقود إلى عالم عجيب تتحدث فيه الحيوانات، وتأتي منه الإجابات على أسئلتها، لكنها إجابات على طريقتها، ما دامت إجابة أمها المكررة لم تسعف هذا العقل الذي لا يسكن، وتلك النفس التي لا تهدأ..!
فمثلا جاءها جدها يوما من وراء الباب المسحور وهو يرتدي جلبابه الأبيض الذي تعودت أن تراه به، وقال لها: "لقد سافرتُ إلى بلاد جميلة، وسأحضر إلى زيارتكم بعد أن أشتري لكِ أجمل الهدايا والألعاب".. فكانت هذه الإجابة مُرْضِية لها، وجعلتها تنتظر بكل شوق وسعادة عودة جدها ومعه كل ما تمنته من ألعاب لم تشتريها لها أمها!!
وفي يوم آخر رأت خلف الباب المسحور حدائق غناء مليئة بالأزهار والفراشات والعصافير وجداول المياه الشفافة الرقراقة، وتشع على كل ذلك شمس مشرقة لها وجه مبتسم (كما تراه في الكرتون).. وعلى العشب الأخضر الزاهي يقبع أطفال رُضَّع ملفوفين في أقمشة بيضاء ناصعة.. ومن حين لآخر تظهر في المشهد إحدى الأمهات لتتجول بين الأطفال، حتى تختار أحدهم فتحمله بين يديها وتقبله، ثم تنطلق به ليصير هو ابنها.. وبالطبع رأت نفسها عندما جاءت أمها والتقطتها..!!!
وتمر الأيام..
وفي كل مرة تسأل فيها (مروة) أحد أسئلتها التي "ستعرف إجابتها غدا عندما تكبر"، كانت في اليوم التالي تجد الإجابة جاهزة هناك.. وراء الباب المسحور..!
وبالرغم من ذلك ظلت تتساءل دوما: "متى يأتي (غدا) حتى تكبر، وحتى تعرف"؟!!
وظلت سنوات تحلم بما خلف الباب.. حتى جاء ذلك اليوم...
كانت تقف في أحد الأركان تحدق في الباب - متلقية منه إحدى إجاباتها - عندما اقترب عامل النظافة بالمدرسة من الباب، وفتحه على مصراعيه!!!
وانهارت فجأة أحلام سنين عدة دفعة واحدة.. لقد فوجئت خلفه ببعض الكراسي والطاولات المدرسية القديمة المكسورة وقد تراكمت فوق بعضها..!
واعتصر القلب الصغير لتنزل عصارته دموعا حارة على وجنتي صاحبته..
تمنت لحظتها أن تصرخ في العامل من بين دموعها: لماذا فتحته؟! لماذا لم تتركه مغلقا؟!
لقد زال السحر عن الباب بمجرد فتحه..!
لكن (مروة) لم تَخُض هذه التجربة المريرة بلا مكسب..
لقد عرفت إجابة سؤالها الذي كان يقض مضجعها..
عرفت أن (غدا) قد جاء، وأنها الآن كبرت...!


-تمت-

تم عمل هذا الموقع بواسطة