23 Mar
23Mar

عَبْرَ نافذة الأتوبيس أتطلع بنظرة زجاجية خاوية إلى معالم شارع الهرم التي تجري أمام عيني في الخارج.. واجهات المحلات والفنادق.. السيارات المجاورة على الطريق.. العمارات محدودة الارتفاع.. كلها متشابهة.. حتى المارة.. نفس النسخ ذات النمط المتكرر في ألعاب الفيديو التي وظيفتها إكمال المشهد وإعطائه الواقعية المطلوبة.. لكنها باردة بلا روح!!
فيم كنتُ أفكر؟
في كل شيء.. ولا شيء!
الضجيج الرتيب لوسائل النقل المصحوب بنفحات هواء منتظمة له تأثير التنويم المغناطيسي.. يفتح بوابة في طرف الذاكرة تندفع منها آلاف الذكريات والخواطر والأفكار إلى الطرف الآخر حيث ثقب أسود يلتهمها دون أن يسمح لي بالقبض على واحدة منها!!!
أعتقد أنني كنت سأظل هناك إلى الأبد أطالع فيلم الذكريات المتكرر ذاك لولا صوت جاري العجوز الذي ارتفع مناديا على السائق:
- (وِمْبِي) يا اسطا.
ورغم أني لا أفتتح عادة تلك المحادثات المتطفلة بين ركاب المواصلات إلا أنني وجدتُها فرصة للهروب من ذلك الثقب قبل أن يبتلعني أنا نفسي:
- سبحان الله.. رغم إن (ومبي) قَفَل من حوالي عشرين سنة وفتح مكانه (كنتاكي)، لكن لسه المحطة بتاعته باسمه!!
نظر لي الرجل بدهشة شديدة قائلا:
- (ومبي) مين اللي قفل؟! وقفل امتى؟!! يا بني ده لسه فاتح من سنتين تلاتة!!
وزالت دهشته وهو يردف منتشيا:
- أنا رايح أقابل أخويا هناك.. أصل الهمبورجر بتاعته روعة!!
رفعت حاجبي في ارتباك للحظة، ثم قررتُ التراجع بسرعة؛ فلم أكن بنفسية تسمح لي بمجادلة عجوز يواجه مشاكل مع ذاكرته التي نقلته في لحظة إلى نهايات الثمانينات؛ فابتسمتُ بِوُدّ مصطنع قائلا:
- بالهنا والشفا.. وما تآخذنيش.. كنت أقصد مطعم تاني!
وأكملت مغمغما:
- صحيح.. السن لُه أحكام!
ثم عدتُ إلى خواطري الصامتة التي صارت - نتيجة لذلك الحوار الخاطف - مُرَكَّزَة في تسعينات القرن الماضي في هذا الشارع تحديدا، حيث كان مكتب والدي يقع في آخره أثناء دراستي الجامعية، وعملي بعد الجامعة كان يقع في أوله؛ فكانت لهذا الشارع مساحة لا بأس بها من تحركاتي اليومية في تلك الأيام.. ومن ثم من أرض ذكرياتي!
وسرعان ما نسيت الرجل الذي تَرَجَّلَ من الأوتوبيس بعدها بلحظات، وبقيت مستغرقا في خواطري بضع دقائق أخرى حتى قطعها صوت أنثوي من الخلف:
- ماتنساش تنزلني عند (داري) يا أُسطا لو سمحت!
ثم أكمَلَت فيما يبدو أنه تتمة لحديث مع من يجاورها:
- أصله عامل عروض حلوة قوي على الأثاث والديكورات بمناسبة افتتاحه!
هنا سَرَت رعدة في مؤخرة رأسي الذي لا بد أن شعيراته انتصبت في توتر حقيقي هذه المرة!!!
لم أكن أعرف بالطبع تاريخ مول (داري)، ولكنني أذكر جيدا فضولي لمدة سنتين تقريبا كلما عبرت بجواره وأنا أتساءل بغيظ عما تخفيه تلك الواجهة الكبيرة من الخيش البُنِّي، حتى تم الافتتاح وكان بالفعل مبنى مميزا وغير تقليدي في تصميم واجهته بالنسبة لتلك الأيام؛ لذا كنت متأكدا من أن افتتاحه كان في منتصف التسعينات، أي منذ أكثر من عشرين عاما!
ومتجاوزا خجلي التفتُّ إلى المرأة صاحبة الصوت بفضول قائلا بلا مقدمات:
- أكيد حضرتك تقصدي "إعادة افتتاحه".. هو كان بيعمل تصليحات ولا حاجة؟!!
نظرت إلي المرأة بدهشة مماثلة لدهشة الرجل، ثم قالت مصححة:
- لأ حضرتك.. تصليحات إيه وإعادة افتتاح إيه؟ ده لسه فاتح من كام يوم.. لازم حضرتك تقصد محل تاني!
فقلت بحدة غير مبررة بالنسبة لها:
- لأ.. أنا أقصد (داري) بالذات!!
انقلبت نظراتها من دهشة إلى غضب، وقالت بحدة مماثلة:
- حضرتك بتتكلم كده ليه؟ وبعدين إيه اللي دَخَّلَك في كلامنا أصلا!!
انتبهت إلى تصرفي غير اللائق، فأشرت لها معتذرا دون أن أضيف كلمة واحدة.. ثم اعتدلت في مقعدي وأنا آخذ شهيقا عميقا قبل أن أخرجه زفرةً حارةً تحمل مزيجا من التوتر والدهشة والارتباك و... الخوف!!
وصرختُ في أعماقي: ما الذي يجري هنا بالضبط؟!!!
تريثت قليلا حتى تَرَجَّلَت المرأة ومرافقتها بدورهما، وكانت أنفاسي وتفكيري قد انتظما، وبدأت في تأمل ما حولي.. بدأت ألاحظ ما لم أنتبه إليه من قبل، وما لم أكن سأنتبه إليه لولا حدوث الموقفين العجيبين السابقين!
كل الصور التي يلصقها السائق حوله لمطربين كانت شهرتهم الساحقة في عقدي الثمانينات والتسعينات.. والصور نفسها - على تنوعها - تُظهر أعمارهم في تلك المرحلة فقط! كما أن كل ركاب الأتوبيس في سن الأربعين فما فوقها.. لا شباب ولا مراهقين ولا أطفال هنالك!!!
هنا وقفت ببطء حَذِر وتحركت نحو سائق الأتوبيس - العجوز بالمناسبة -، وخلفه تماما وقفت وانحنيت عليه قائلا:
- مش ملاحظ يا اسطا إن كان راكب معاك اتنين مجانين؟ مش صدفة صعبة شوية؟
ابتسم الرجل دون أن يلتفت إليّ - وهو ما زرع بذرة خوف في قلبي - ثم قال بهدوء:
- ولا مجانين ولا حاجة.. حضرتك بس اللي لسه جديد!!
اتسعت عيناي وقد شعرت أنني أكلم مجنونا آخر:
- انت بتتكلم عن إيه بالضبط؟!! باقولك إيه؟ نزلني لو سمحت!!
قال بهدوء زاد من خوفي:
- إهدا بس يا أستاذ.. ده انت حظك حلو.. مش أي حد بتجيله الفرصة دي!
- فرصة إيه؟!!
- طيب قولي بس: إنت نازل إمتى؟!
- قصدك "فين"؟!
- لأ "إمتى".. سنة كام يعني؟
هنا تضاعف الخوف بداخلي، فانتقلت إلى الباب المغلق صائحا:
- نزلني هنا.. مش معقول كل ده ماجاتش محطة!
ضحك قائلا:
- إنت ماخدتش بالك إن أنا مش باقف في محطات؟ أنا باقف بس لما زبون يكون نازل ولازم يحددلي نازل فين؟
- مش "إمتى" يعني زي ما قلت!!!
- أيوه.. لأن هما عارفين عاوزين إيه! لكن انت مش عارف عاوز تنزل مكان إيه بالضبط.. علشان كده سألتك "سنة كام" يمكن الموضوع يبقى أسهل!!
ورغم أنه من المفترض أن الأمر صار مرعبا لا مخيفا فقط، إلا أنني - لدهشتي - شعرت في كلمات الرجل برقة وود حقيقيين، فبدأت أستعيد هدوئي وقد تغلب الفضول على الخوف.. فقلت للسائق بتردد:
- لو سمحت.. عاوز افهم إيه الموضوع بالضبط؟!!
- أبدا.. انت راكب "أتوبيس الزمن".. هنا كل واحد بينزل في "مكان" و"وقت" الذكرى اللي تعجبه!!
هنا قررت أن أغادر الأتوبيس بأي طريقة، فقبضتُ على كتف السائق بحزم قائلا:
- لو احنا في برنامج من برامج الكاميرا الخفية فأنا بارفض أكمل معاكم لأني مش موافق أهزأ نفسي!! وبالمناسبة.. هي الفكرة حلوة بس ماتنفعش مع المصريين.. دي عايزة ناس رايقة وخيالها واسع وبتتفرج على أفلام خيال علمي كتير!!
ثم اتجهت نحو الباب مردفا بحزم أشد:
- وَقَّفْ الأتوبييس لو سمحت.. وإلا هاكَسَّر الباب!!!
هز الرجل كتفيه بلا مبالاة قائلا:
- وعلى إيه؟ براحتك.. بس خد بالك... لو وقفت كده بدون ترتيب.. ماضمنش المحطة اللي هتنزل فيها تكون فيها ذكرى حلوة ليك!!!
هنا صرخت فيه بغضب شديد:
- كفاية استهبال باقولك!!!
لكن الرجل لم يفقد هدوءه، وبدأت حركة الأتوبيس تتباطأ وهو يستدرك:
- صَدَّقني.. الموضوع مافيهوش ريحة الاستهبال.. وعامة الحكاية بسيطة.. ثواني وهانقف وهافتح الباب وكل حاجة هَتْبَان أُدَّامك!
كاد الفضول ينهش قلبي من الثقة البادية في كلمات الرجل وعلى ملامحه.. وبالفعل ما هي إلا ثوانٍ معدودة وتوقف الأتوبيس تماما، وانطلق صوت الفحيح الشهير قبل أن يبدأ الباب في الانفراج.. ثم كانت المفاجأة التي هبطت عليّ كالمطرقة فَرَجَّت كياني كلَّه!!
كان المشهد البادي من باب الأتوبيس يختلف عن المَشَاهِد التي تكشفها نوافذه؛ فتلك الأخيرة كانت تُظهر مشاهدَ معاصرة لشارع الهرم، بينما كشف لي الباب عن مشاهد أخرى في المعالم وفي حداثة المباني.. باختصار.. كان الباب بالفعل بوابة لزمن آخر غير الذي ركبت فيه الأتوبيس!!!
وانعقد لساني عن الكلام تماما، قبل أن أنهار على أقرب مقعد، وظل الخَرَس رفيقي لعشر دقائق كاملة انتهت خلالها مقاومتي لتكذيب ما يحدث!
- هااا؟ هتنزل يا أستاذ ولا لأ؟!
كانت هذه من السائق، فتحولتُ إليه ببصري ببطء شديد قبل أن أقول بشرود:
- لأ.. عاوز أفكر الأول!!!
وكأنه كان يتوقع الرد، فقد أغلق الباب بمجرد انتهاء جملتي وعاود الانطلاق.. ولاحظتُ في تلك اللحظة أنه لا أحد من الركاب عَلَقَّ مرة واحدة على ما حدث، وكأن الحوار العجيب الذي دار بيني وبين السائق كان عن أمر تقليدي كزحام الشوارع أو غلاء الأسعار!!!!
تدريجيا بدأت أنظر إلى الأمر من زاوية جديدة..
هذه منحة لا ينالها الكثيرون - كما ذكر السائق-، صحيح أنها غير مصحوبة بتفسير يريح العقل، لكنها تظل منحة يتمناها البشر أجمعين.. منحة أن تأخذ فرصة ثانية.. أن تستعيد ما فات.. ومع منحة كهذه الخاسر فقط هو من يبحث عن الأسباب!!!
ساعتها قفزت أمام عيني أهم ذكرى مرت بي في هذا الشارع..
كنت أجلس قبالتها في الكافيتريا.. كان اللقاء الأخير بيننا.. اللقاء الذي لم ألقاها بعده أبدا.. صارحتها بأنني لن أستطيع أن أكمل الطريق معها.. لم ينقص حبها في قلبي مثقال حبة من خردل.. لكنه الطريق الذي اخترته.. كنت أسميه وقتها طريق الالتزام.. طريق الدعوة.. وكانت هي لا تحب هذا التوجه رغم أنها كانت محجبة.. لكن حماسة الشباب مع سطحية التفكير وضحالة التجربة وقتها أوحوا لي أن حبها سيكون عائقا لي عن طريقي.. كان الخيار صعبا والقرار شاقا.. لكنني اخترت وقررت!!
ثم اكتشفت بعد مرور كل تلك السنوات، وبعد تجارب قاسية متنوعة، أن قناعاتي لم تكن هي الصواب بالضرورة، وبأن طريقي لم يكن ذلك الطريق المثالي الذي ظننته.. وبأن الناس ومواقفهم وقناعاتهم لا يمكن تصنيفها دائما بين اللونين الأسود والأبيض!!
وكانت تلك اللحظات تقفز أمام عيني مؤخرا من حين لآخر.. لم أنسَ قط نظرات الانكسار في عينيها وهي تستمع إليّ غير مستوعبة لسبب هجري الغريب.. لم أنسَ قط نبرة الرجاء في صوتها وهي تسألني أثناء انصرافي:
- يعني خلاص.. مش هاشوفك تاني؟!
ولكنني انصرفت بقسوة دون حتى أن أجيبها بالنفي.. كَمْ مزقتني تلك اللحظة بالذات .. كم ندمتُ عليها وتمنيت أن أستعيدها ولو من أجل أن أعتذر لها.. فقط أعتذر لها!
لهذا أفقت على صوتي وأنا أقول للسائق ببهجة:
- كافيتريا (............) يا اسطا لو سمحت!
التفت إليّ الرجل الجالس أمامي والذي صعد إلى الأتوبيس منذ قليل سائلا بدهشة:
- هي الكافيتريا دي مش اتحرقت أيام الثورة ومافتحتش تاني؟!
نظرت إليه مبتسما ولم أعلق!
وعند المحطة المطلوبة توقف الأتوبيس، فتوجهت إلى بابه المفتوح بهدوء، وخَطَوْتُ نحو الخارج بكل ثقة هذه المرة.. وبكل شوق!

- تمت -

تم عمل هذا الموقع بواسطة