23 Mar
23Mar

(1)
- (أحمد).. أنت تهوَى تعقُّب النساء.. أليس كذلك؟!!
قلتُ هذه العبارة بشكل مفاجئ على طريقة المحققين في تفجير التهمة في وجه المتهم على غير توقع منه لمراقبة رَدَّ فِعله الأَوَّلي.. فكثيرا ما يكون رد الفعل هذا مفتاحا لمسار التحقيق.. وأحيانا قد يَصْدِفُ مع متهم - من ضعاف الشخصية أو الذين أنهكهم التعرض للضغط لفترة طويلة - أن ينهار مباشرة وينتهي كل شيء..!
طبعا كانت هذه مبالغة مني؛ لأن الجالس أمامي لم يكن إلا طالبا في الفرقة الثانية من كلية الآداب بجامعة القاهرة.. حسن السمعة، ذا ملامح هادئة ساعدت نظارته الطبية على إضفاء سمت من الطيبة عليها.. كما أنني لست محققا في المباحث الجنائية.. فقط أستاذ لمادة علم النفس في نفس الكلية..!
أما عن ذلك الطالب فقد فاجأني هو برد فعل غير متوقع.. صمت مطبق.. لا اهتزاز في أي عضلة من عضلات وجهه.. وهذا - لعمري - في حد ذاته قرينة إدانة لديّ، سيما مع التهمة التي وصمتُه بها، التي من المفترض - أو من المنطقي - أن تثير غضب أي شخص بريء يحاول أحدهم تلويث شرفه، أو على الأقل تثير دهشته واستنكاره..!!
مرت لحظات ثقيلة.. انتظرت معها أن يتكلم نافيا عن نفسه التهمة بانفعال؛ فلعل المفاجأة كانت صادمة لدرجة أن يحتاج بضعَ ثوانٍ لاستيعابها..!!
لكن.. نصف دقيقة أخرى.. ولا جديد.. لا ارتجافة أو توتر في أي خلجة من خلجاته..!!
لكنني لستُ ابن الأمس في مهنتي.. فلتقطع ذراعي إن لم يكن هناك قطيع من الأسود يتصارعون في صدر هذا الشاب الآن!!!!
هذا هو التفسير الأمثل.. الفتى يبذل مجهودا خرافيا لالتزام الصمت؛ لأنه - ببساطة - لو تكلم لما استطاع التحكم في البركان الذي سيتفجر بحممه ودخانه وشظاياه.. ولأني أعلم أن هذا الكتمان مضر به على المستويين النفسي والجسدي، وهو آخر ما أسعى إليه بالتأكيد، فقد تراجع المحقق وتقدم الأستاذ الجامعي قائلا بنبرة أبوية حنون:
- هَوِّن عليك يا بني.. أنا أعرف أن لديك مشكلة ما.. أعرف عن تفاصيلها جزءا وأجهل الآخر.. وما استدعيتك إلى مكتبي هنا إلا لنحاول حلها سويا.. ربما لم تكن بيننا علاقة أو معرفة سابقة، وربما كانت المصادفة وحدها سببا في أن أكون في هذا الموقف.. لكني أستشعر أن عليّ مسئولية تجاهك لا بد أن أوفيها حقها..!!
مر دهر قبل أن يرفع الفتى عينيه إليّ، ثم يحرك شفتيه ببطء شديد هامسا بآخر جملة توقعت أن أسمعها منه بعد تلك الممانعة الصامتة:
- كيف عرفت؟
* * * * *
(2)
يجب أن أوضح هنا أن ذلك الموقف لم يكن هو بداية الحكاية، لكن البداية كانت منذ أسبوع تقريبا..
كنت أجلس أيضا في غرفة مكتبي منهمكا في كتابة ورقة علمية أحاول إنهاءها بعد انشغال طويل عنها؛ لذا فقد أجفلت حينما صك سمعي صوت طرقات على باب الغرفة رغم ضعفها.. ناديت من بالخارج ليتفضل بالدخول وأنا في نيتي أن أصرفه في أسرع وقت ممكن..!
انفتح الباب ببطء لتطل من خلفه امرأة في نهاية الأربعينات لا أعرفها.. تقدمت نحو مكتبي بتردد واضح، فشجعتها على الجلوس وأنا أحاول تذكر تلك الملامح.. كنت متأكدا منذ اللحظة الأولى أنني لم ألتقيها من قبل، ولكني أدركتُ - رغم ذلك - أن وجهها يقبع في مكان ما من ذاكرتي..!
بالطبع هي ليست إحدى زميلات العمل.. لا بد إذن أنها إحدى الموظفات الإداريات؛ فقد كانت نموذجا للطابع الشائع للمرأة المصرية العاملة.. ملابس متواضعة غير متأنقة بشكل زائد.. الحجاب القاتم سواء كان طرحة قصيرة أو خمارا مسترسلا.. الجسم المتهالك.. ملامح الوجه التي تحكي ببراعة القصة اليومية الكاملة: استيقاظ مبكر.. معركة مع شياطين يجب أن يفطروا ويستعدوا للمدرسة خلال ساعة.. مواصلات خانقة.. دوام مليء بالعرق والملل.. مواصلات خانقة من جديد.. شراء مستلزمات البيت.. غداء.. تدريس للأبناء..
غسيل وكي وتنظيف.. ثم الخاتمة بزوج لم يشهد شيئا من كل ذلك يأتي متهالكا من وظيفته الثانية أو الثالثة طالبا حقوقه الشرعية!!!
هذه النماذج البشرية المكررة يمكن أن ألمحها من حين لآخر أثناء التجوال في الكلية بشكل سريع دون حتى أن يكون بيننا تحية عابرة.. لا بد أنها منهم.. وإلا ما كان لوجهها أن يلتصق في الخلفية على حائط ذاكرتي..!
رغم أن تلك الخواطر لم تستغرق غير ثانيتين، إلا أن أثرها - لا بد - ظهر على ملامحي؛ فلم تنتظر المرأة سؤالي، وبادرت بتقديم نفسها:
- مدام (حنان عبد الفتاح).. موظفة في قسم شئون الطلاب بالكلية..
أومأت لها برأسي مصدرا همهمة غير ذات حروف، لكنها تعني أَنْ: أهلا وسهلا.. هل من خدمة أقدمها لك؟!
ازدردت لعابها بصوت مسموع، وجففت عرقا وهميا من على وجهها بمنديل ورقي يبدو أنه لا يفارق كفها أبدا، قبل أن تقول بصوت مبحوح من فرط الحرج:
- لدي مشكلة غريبة مع أحد طلاب الكلية، وقد نصحتني زميلة لي بأن ألجأ إليك بشأنها لأنك مشهور بكثرة المشاركة مع الطلاب في فعالياتهم وأنشطتهم، ولديك احتكاك جيد بهم.
أومأت برأسي متفهما، وأشرت لها أن تكمل.. فاستطردت قائلة بصوت أكثر وضوحا:
- المشكلة باختصار أنني منذ ثلاثة أيام، عند انصرافي من الكلية فوجئت بأحد الطلاب يركب معي نفس الميكروباص..
مططت شفتي السفلى في إشارة إلى أن هذه مصادفة لا تستدعي الدهشة.. إلا أنها استدركت قائلة:
- يمكنك اعتبار هذا مصادفة طبيعية، لكن لو عرفت حضرتك أنني أركب ثلاث مواصلات مختلفة أثناء عودتي إلى المنزل، وأنه ركب معي نفس السيارة في المرات الثلاث، وفوق ذلك أنه لم يحاول أن يحادثني رغم أنه يعرفني وأعرفه، ستجد معي أن الأمر غير طبيعي بالمرة..!
جذب كلامها كل انتباهي عند هذه النقطة حتى أنني نسيت تماما أمر الورقة البحثية، وأنصتُّ لها بكل حواسي، وهي تسترسل:
- لا أخفيك سرا يا دكتور.. رغم كل ذلك أحسنت الظن به، خاصة أنني لم أعرف عنه سوء خلق يشينه في الكلية، وتصورت أنه - بصدفة ما - يسكن في نفس منطقتي وأنني فقط لم أنتبه لهذا من قبل.. لكن ما حدث بعد وصولي إلى المنزل هو الذي أكد لي أن هناك أمرا مريبا يخفيه هذا الشاب؛ فبعد مغادرتي لآخر سيارة فوجئت به يتبعني في السير حتى وصلت إلى البناية التي أسكن فيها، فصعدت مسرعة والخوف يتملكني، وما أن دخلت إلى شقتي حتى أخذت أراقب الشارع من خلف أحد الشبابيك، فإذا به يقف بكل جرأة يتطلع إلى البناية وكأنه يحاول استنتاج الطابق الذي أسكن فيه.. وتوقعت أن يستفسر عن ذلك من أحد سكان المنطقة، لكنه بقي على وقفته تلك لمدة دقيقة أو دقيقتين، ثم انصرف بهدوء!!!
تراجعت في مقعدي وحيرة شديدة تعصف بي مما سمعت.. قبل أن أسألها:
- وماذا حدث في اليوم التالي؟ هل قابلتيه في الكلية؟
قالت بابتسامة حائرة مرتبكة:
- هذا ما ضاعف حيرتي؛ فقد قابلته أثناء ذهابي إلى غرفتي وحياني بشكل طبيعي وكأن شيئا لم يكن، بل الأعجب من ذلك أنه حضر إلى مكتبي في منتصف اليوم لينهي إجراء يخصه، وتكلم معي بشكل طبيعي جدا، لدرجة أنني شككت لوهلة أن تكون أحداث اليوم السابق مجرد وهم، أو أن يكون من رأيتُه شخصا آخر شبيها به..!
قاطعتها قائلا بحرج:
- أليس هذا واردا..؟
حركت رأسها نفيا بقوة وإصرار:
- لا يا دكتور.. أنا متأكدة تماما مما حدث.. إنما أربكني أسلوبه المتناقض مع موقفه السابق..!!
- وماذا عن الأيام التالية؟ هل تكررت هذه المطاردة الصامتة؟
- لا..!
ضاقت عيناي وأنا أقلب الاحتمالات في رأسي لعلي أجد إجابة لهذا التصرف الغامض الذي تزعم هي أنه لا علامات سابقة يمكن أن تنبئ به من تصرفات أو أخلاقيات ذلك الشاب!!! ثم تنبهت إلى نقطة مهمة في هذه القصة: لماذا يطارد هذا الشاب امرأة أربعينية متواضعة الجمال ليست ميسورة ماديا؟ ما الذي أغراه - أو حتى جذبه - لتعقبها؟!!
بالطبع استحييتُ أن أصارحها بسؤالي الأخير، لكني أفصحت عن تساؤل منطقي:
- عفوا.. لكن كوني قريب من الطلاب ليس مبررا كافيا في ظني للجوء إليَّ عوضا عن اللجوء إلى الشرطة أو حتى أمن الجامعة!
بدت عليها الحيرة قبل أن تمط شفتها مجيبة:
- الحقيقة يا دكتور.. كنت سأفعل هذا بلا تردد لو أنه كررها ثانية.. لكن عدم تكراره للأمر إضافة لما أخبرتك به من تصرفاته التالية أورثني شعورا بأن ذلك كان فعلا طارئا عليه، وبروح أم رفضتُ أن أغامر بتوريطه في مشاكل قد تؤثر على مستقبله الدراسي.
- وماذا عن حياته الأسرية وظروفه الاجتماعية؟!
- لست أعرف عنها غير أنه متوسط الحال، ويعيش مع إحدى قريباته بعد موت الأم وسفر الأب!
كانت هذه الإجابة بمثابة ختام واضح لحديثنا؛ فطمأنتها قائلا:
- حسن يا مدام (حنان).. أشكر لك هذا الشعور الطيب.. وأعدك بأني سأبدأ في التحرك لفهم هذا السلوك الغريب من الطالب، وسأعلمك بما أتوصل إليه بإذن الله.. لكن عليك بالطبع إخباري مباشرة بأي تصرف غريب قد يطرأ من ناحيته.
ثم تبادلنا أرقام الهواتف قبل أن تنصرف.. ولم أنس الاعتذار عن انشغالي بغرابة مشكلتها عن عدم تضييفها بمشروب..!
مرت عليّ نصف الساعة بعد انصرافها وأنا أعيد تقليب الأمر في ذهني دون الوصول إلى جديد.. ثم عزمت أمري على أنه لا بديل عن مواجهة الطالب نفسه بما فعل، ولتكن هذه نقطة البداية الحقيقية لتفسير تصرفه شديد الغرابة والغموض.. ولكن لكي أكون في مركز قوة يجب أن أعرف عنه المزيد، فضلا عن الاستيثاق من نقطة حيوية: هل ما فعله مع هذه الموظفة كان تصرفا فرديا أم أنه كرره مع أخريات؟!!
وهنا كان دور المكالمة التالية...
* * * * *
(3)
- آلو.. كيف حالك يا (تامر)؟ هل أنت الآن في الكلية؟.. هل يمكنك الحضور إلى مكتبي الآن؟.. إذن أنا في انتظارك..!
كان هذا الطالب هو أقرب الطلاب إليّ، وهو بمثابة حلقة الوصل بيني وبين بقية الطلاب، ومن خلال تعاملاتنا لسنتين سابقتين ترسخت لدي ثقة كبيرة في أخلاقه وفي قدراته فضلا عن نشاطه الجم.. كان باختصار: "راجل يعتمد عليه".. وبالتالي كان الشخص النموذجي للمهمة التالية التي لن يصلح سني ولا مركزي الاجتماعي للقيام بها..!
بعد بضع دقائق كان (تامر) يجلس أمامي.. وبعد سؤالين موجزين عن أحواله ودراسته دخلت إلى لب موضوعنا:
- أحتاجك في مهمة حساسة للغاية.. تحتاج في أدائها إلى الدقة والكتمان.. فهل لديك استعداد لذلك؟
بلا تردد أجاب في حماسة:
- بإذن الله لن يخيب ظنك فيَّ يا دكتور (سمير)!
أومأت له مشجعا، ثم انطلقت مباشرة في سرد ما دار بيني وبين موظفة شئون الطلاب منذ قليل.. ثم أتبعت بسؤاله:
- ما رأيت أنت؟ هل عرفتَ سابقا عن هذا الطالب ما يشينه أو حتى يفسر لنا هذا الغموض؟
رفع حاجبيه حيرة وهو يقول:
- الحقيقة أن (أحمد) ليس انعزاليا بدرجة ملفتة، ويشارك بالفعل في عدد من أنشطة الكلية، ورغم أننا لا نعرف عن حياته الشخصية الكثير، فإننا لم نلحظ من تصرفاته ما يثير الشبهات أو حتى التساؤلات..!!
- بهذا سننتقل مباشرة إلى طبيعة المهمة التي استدعيتُك من أجلها.. أريد منك أن تراقب (أحمد) لعدة أيام.. ليس على مدار الأربع وعشرين ساعة بالطبع، ولكن خلال فترة تواجده في الكلية، ثم بعد انصرافه منها وحتى وصوله إلى منزله، إضافة إلى جمع بعض المعلومات عن حياته الاجتماعية.
ثم أخرجت محفظة نقودي وقدمتُ له مبلغا من المال يكفي تكاليف تنقلاته المتوقعة.. بالطبع تحرج أن يقبلها في البداية، ثم تناولها بعد نظرة أبوية صارمة مني.. ثم ختمتُ حديثنا قائلا:
- سأسافر إلى (الإسكندرية) غدا بإذن الله لحضور مؤتمر علمي، وغالبا سأقيم هناك لأربعة أو خمسة أيام لأقضي بعض المهام الشخصية.. أعتقد أن هذه الفترة ستكون كافية تماما لتجمع لي المعلومات المطلوبة، ولا تحتاج أن أذكرك أن تتصل بي إن كان هناك ما يستحق..!
وانصرف (تامر) على وعد بملاقاتي في مكتبي من جديد حال عودتي من (الإسكندرية).
* * * * *
لم يتصل بي (تامر) مرة واحدة خلال الأيام الأربعة التالية؛ لذا فقد نسيت الأمر تماما في غمرة انشغالي بأعمال المؤتمر، ثم بزياراتي الخاصة، لكن في مساء اليوم الخامس تذكرتُ كل شيء دفعة واحدة مع رنين هاتفي حاملا اسم (تامر علي - أسرة الحرية)..!
على سطح الهاتف مسحت بأصبعي علامة السماعة الخضراء، ثم:
- آلو.. (تامر)؟ أين أنت يا بني؟ لم أسمع لك صوتا منذ لقائنا.. هل أنت بخير؟
- بخير ولله الحمد يا دكتور (سمير)..
- إن لم تكن وُفِّقتَ في مهمتك وتتحرج من الاتصال بي، فلا بأس...
- لا.. بل هناك الكثير والكثير مما يجب أن نتحدث عنه.. يكفي أن تعرف أن هذه المهمة العجيبة دفعتني إلى أن أكلمك الآن من (طنطا)!!
- (طنطا)؟!!! وضح أكثر يا بني.. ماذا يحدث عندك بالضبط؟!!!
- اطمئن يا دكتور.. أنا بخير كما أخبرتك.. لكني لن أستطيع الاسترسال في الحديث الآن؛ فبطارية هاتفي شارفت شحنتها على الانتهاء.. سأركب القطار بعد دقائق، لكن أردت أن أتأكد من تواجدك غدا في (القاهرة).
كنت أنوي قضاء يوم آخر في (الإسكندرية) التي أعشق شتاءها، إلا أن فضولي تغلب على هذا العشق؛ فعدلت عن ذلك قائلا له بكل لهفة:
- بإذن الله.. سأنطلق غدا مبكرا، وليكن لقاؤنا في مكتبي في حدود العاشرة والنصف صباحا..!
ربما كان البعض سيقضي ليلته يصارع ثنائيي الأرق والقلق وهو يفكر فيما قاله (تامر)، لكنني لست من هذا النوع من الناس، إنما من النوع الثاني الذي يثير حنق النوع الأول.. فمهما كان ما يشغلني قبل النوم، كنت أضع رأسي على الوسادة ليتصاعد غطيطي في لحظات.. وهي -بالتأكيد- نعمة تستحق أن أحسد عليها..!
ودائما.. غدا يوم آخر.
* * * * *
(4)
كان (تامر) دقيقا؛ ففي الوقت المحدد كان يطرق باب غرفتي، وبعد أن طلبت لنا مشروبين ساخنين، بدأ الفتى - في لهفة تفوق لهفتي - يسرد ما حدث منذ تركته:
- بدأتُ مهمتي بعد أن تركت حضرتك مباشرة؛ فبحثت في أنحاء الكلية عن (أحمد) حتى وجدته وأنا عازم على ألا يغيب عن ناظري أبدا، وكان اليوم الأول روتينيا جدا.. تتبعته خفية حتى وصل منزله في منطقة متوسطة الحال، فلا هي شعبية ولا هي من الأحياء الراقية.. وعرفت بعد سؤال أنه يسكن مع خالته بمفردهما..
- وماذا عن الوالدين؟!
- الأم توفيت وهو في سن السادسة أو السابعة، والأب سافر بعدها تاركا إياه مع خالته الوحيدة.. المهم هو ما حدث في اليوم التالي عقب انصرافه من الكلية..! لم يكن باديا عليه أنه يتتبع أحدا بعينه، حتى لاحظت أنه بدأ فجأة في تتبع امرأة تسير خارج الجامعة، كنت أشك في هذا حتى أشارت إلى ميني باص وركبته فسارع هو بالركوب وراءها قبل أن تتحرك السيارة، وتبعتهم أنا بسيارة أجرة حتى لا ينتبه (أحمد) لي.. وتكرر تقريبا نفس ما حدث مع مدام (حنان)؛ فبعد نزول المرأة من الميني باص نزل وراءها، وظل يقف على مسافة منها حتى ركبت ميكروباصا فسارع أيضا بالركوب معها، وفي محطتها النهائية، نزلت ثم سارت حتى بيتها الذي يقع في منطقة شعبية، وهو يتبعها أيضا حتى دخلت منزلها، فتوقف لدقيقة تقريبا يتأمل المنزل، ثم انصرف بهدوء، كل ذلك وأنا أراقبهما عن بعد من داخل سيارة الأجرة..!
كان أول ما تبادر إلى ذهني أن سألته باهتمام:
- وماذا عن صفات تلك المرأة؟ أقصد صفاتها الشكلية؟!
أخرج هاتفه من جيبه على الفور وكأنه كان يتوقع هذا السؤال، وراح يمسح وينقر على سطحه بأصابعه باحثا عن الصورة، قبل أن يقربها إلى وجهي قائلا بزهو:
- لقد بذلت جهدا كبيرا للحصول على هذه الصورة ومن هذه الزاوية..!
تأملت الصورة باحثا عن شبه ما أو نمط ما يربطها بمدام (حنان).. لكنها كانت سافرة الشعر متبرجة.. بدا لي أنها قد تخطت الخمسين بعام أو عامين مع احتفاظها بجمال واضح يتحدى السن..!!
أخذت أعرض أفكاري بصوت مرتفع في دعوة غير مباشرة لـ(تامر) أن يشاركني إياها:
- إذن يمكننا الآن أن نؤكد أن ما حدث مع موظفة شئون الطلاب لم يكن أمرا عارضا، وأن هذا سلوك مكرر لدى (أحمد).. لكن ما الهدف من ورائه؟!
- ربما كانت الرغبة في التحرش؟!
حركت رأسي نفيا وأنا أوضح له:
- على العكس.. يمكننا استبعاد هذا الاحتمال؛ فهو لم يتعرض لهما ولو بالكلام..!
قال (تامر) في إصرار:
- ربما يراقبهن أولا؛ ليحدد لاحقا من منهن الأنسب له..!
- لن أقول لك أن الجمال الجذاب لم يكن موجودا في حالة مدام (حنان)؛ لأنه لا يكون الدافع دائما في حالة المتحرش، لكن المتحرش ليس طويل البال إلى هذه الدرجة.. كما أنه سيختار فتيات أصغر سنا في ظني..!!
مرت لحظات من السكون، ثم قلت له:
- عامة.. دعنا نؤخر الاستنتاجات قليلا، وأخبرني ماذا حدث بعد ذلك.. وكيف انْتَقَلَتْ بك الأحداث إلى (طنطا)؟!
ضرب رأسه بكفه منتبها إلى أنه لم يحكِ بقية مغامرته في الأيام السابقة.. وقال في شبه هتاف:
- صحيح.. موضوع (طنطا)!!
ثم أخذ شهيقا عميقا وأخرجه في زفرة حارة قبل أن يردف:
- اليوم التالي كان عاديا ولم يقم فيه بأي تعقب حتى وصل إلى بيته، لكن في اليوم الرابع بعد أن انتهت محاضراته سار مع زميل له وهما يتحدثان، واستمرا قرابة الساعة يتجولان بلا هدف واضح في الجامعة، حتى وصلا إلى كلية دار العلوم، وكنت صراحة قد مللت وفكرت في الانصراف، لولا أنني لاحظت أنه بعد انصراف زميله بدأ باهتمام في مراقبة إحدى طالبات الكلية هناك.. لقد صرت أعرف تلك النظرة في عينيه.. وكنت واثقا أنها بداية مطاردة جديدة.. كان من الصعب أن ألتقط صورة هذه المرة، لكنها كانت فتاة جميلة جدا ومحجبة حجابا حقيقيا؛ فلا تبرج ولا ملابس ضيقة أو مبهرجة، ولا خصلات من الشعر تسترسل من مقدمة الرأس.. تتكلم مع زميلاتها بمرح لكن بلا ابتذال أو رفع للصوت بلا داعٍ!!
ابتسمت بداخلي وأنا أستمع إلى طريقته في وصفها.. هذا الفتى يتكلم عن فتاة أحلامه..! لكنني فضلت عدم التعليق وتركته يكمل إلى النهاية...
- ... بعد نصف ساعة تقريبا من المراقبة المزدوجة.. هو يراقبها وأنا أراقبهما.. انصرفت الفتاة تاركة الكلية، وبالطبع هو وراءها وأنا وراءه.. وكالمعتاد.. ركب معها ثلاثة مواصلات متتالية وأنا خلفهما بسيارة أجرة لنفس السبب السابق.. لا أعرف إن كانت انتبهت له أم لا.. لكني أرجح أنها لم تفعل، وإلا كان لها رد فعل ما..! المهم أننا وصلنا إلى محطة القطار في (رمسيس)، وهنا لا أخفيك القول يا دكتور.. أدركت أن (أحمد) هذا مخبول بالتأكيد؛ فقد قطع تذكرة للركوب معها في نفس رحلة القطار إلى (طنطا)!!!
قلت له مداعبا:
- ورغم هذه المطاردة الطويلة، كنتَ تظنُّه مجرد متحرش عادي؟!!
هز كتفيه حائرا وهو يجيب:
- لا أجد تفسيرا غير ذلك.. فالأمر محير يا دكتور.. تصور حضرتك.. لولا هذه الشابة الجامعية لكان تفسيري أنه يبحث عن عروس بين النساء اللاتي تكبرنه سنا في تعويض غير مباشر عن حنان الأم، رغم أنه تفسير ساذج أقرب لما نشاهده في الأفلام..!!
قلت له بجدية:
- تفسيرك ليس ساذجا إلى هذه الدرجة يا (تامر)، لكن حتى في هذه الحالة لا يكون السلوك المتبع بهذا الشكل، فغالبا ستنبني مثل هذه العلاقة بدون ترتيب مسبق منه مع امرأة مقربة منه بالفعل، مثل قريبة أو جارة أو حتى أستاذة في الجامعة، وذلك من خلال علاقة بشرية طبيعية قد أبدت فيها هي تعاطفا معه بشكل ما.. فضلا عن أن اختيار فتاة شابة في هذه المطاردة الثالثة - كما أَشَرْتَ أنت - تنسف هذه النظرية نسفا!! وبالعودة إلى هذا.. ما الذي دفعك إلى متابعتهما في رحلة إلى (طنطا)؟!!
أجابني وهو يحك أذنه في حرج:
- لقد خشيت أن يكون في نيته التعرض بسوء لتلك الفتاة البريئة..!
ثم استدرك بسرعة:
- لكن بالطبع كنتُ حريصا على إتمام المهمة التي كلفتني بها كاملة.. وألا أخيب ظنك فيّ..!
ابتسمت ثانية وأشرت له أن يكمل.. فاستطرد قائلا:
- كما لك أن تتوقع.. لم يحاول التعرض لها طوال رحلة القطار.. بينما كنت أبذل كل جهدي لكي لا ينتبه لوجودي!! وهناك.. رَكِبَت مواصلتين، ولكنه تعقبها هذه المرة بسيارة أجرة، لعله خشي أن تنتبه إليه هذه المرة؛ فبالتأكيد صدفة التلاقي في أكثر من مواصلة ربما تحدث في (القاهرة)، لكن من العسير أن تستمر حتى (طنطا)..! وبالطبع أنا في سيارة أجرة أخرى تتبعهما في هذه القافلة العجيبة!! ولم يتركها إلا بعد أن وصلت إلى بناية على رأس أحد الشوارع، وكما حدث في الحالتين السابقتين، تَسَمَّر دقيقة أو دقيقتين أمام المبنى ثم انصرف في هدوء دون حتى أن يسأل أحدا من أهل المنطقة عن أية معلومات!! ثم عاد ليركب القطار عائدا إلى القاهرة، وهو الموقف الذي خاطبتك أثناءه هاتفيا..!
نهضتُ من مقعدي ورحت أتحرك في الغرفة وأنا أكمل تفكيري ذي الصوت المرتفع:
- أعتقد أن هذه المطاردات الثلاث تقدم لنا قدرا مناسبا من المعلومات يمكننا أن نبني عليه استنتاجاتنا..!
قام من مقعده احتراما لي، وهو يقول مكملا عبارتي:
- أو نستبعد من خلالها بعض الاحتمالات.
- بالضبط؛ فنحن الآن استبعدنا فعليا احتمالَيْ: التحرش لإشباع رغبة وقتية ملحة، والسعي للزواج بامرأة أكبر سنا تعويضا عن فقد الأم في الصغر.. ما السبب إذن الذي قد يدفع شابا جامعيا محترما إلى انتهاج هذا السلوك المريب؟!!
مرت دقائق جديدة من الصمت الثقيل.. قبل أن يفزعني (تامر) فجأة وهو يهتف بعينين متسعتين ذعرا:
- وجدتها يا دكتور.. لا بد أنه قاتل متسلسل!!!
ضغطتُ على أسناني في غيظ بسبب إفزاعه لي من أجل هذه الفكرة.. هذا الفتى واسع الخيال حقا..!!
تمالكت أعصابي قبل أن أقول بهدوء مفتعل:
- رغم أن اقتصار مطاردته على النساء قد يوحي لك بهذا الحل.. إلا أن الفكرة مرفوضة..
وقبل أن يعارضني كما بدا في نظراته، أردفتُ مفسرا:
- هناك نمط ما يتميز به القاتل المتسلسل في اختيار ضحاياه، وهو ما لا أراه متوافرا هنا؛ فالإناث الثلاث لا يجمعهم عامل مشترك واضح.. طبعا النمط لا يكون دائما بارزا سهل الكشف.. لكن هناك أسباب أخرى، أهمها أن القاتل المتسلسل يكون حاد الذكاء، وبالتالي لن يطارد ضحاياه بهذه السذاجة المفضوحة، والفترات الزمنية بين جرائمه لا تكون قصيرة للغاية بهذا الشكل، كما أنه لا يطارد إلا ضحية واحدة حتى ينتهي من جريمته ثم ينتقل إلى التي تليها، فضلا عن أنه لا جرائم حدثت أصلا!!!
ضاقت عيناه وهو يطرق بسبابته على صدغه قائلا بلهجة المفكر العميق:
- ربما كان نوعا جديدا من القتلة المتسلسلين!!
قلت له بسخرية مريرة:
- يا بني.. أعتقد أن هذه النوعية من القتلة لا تظهر إلا في مجتمعات متقدمة ذات خلطة خاصة من احترام الحرية الشخصية للإنسان مع انفجار لا أخلاقي.. هناك يعيش القاتل في ظروف معيشية مرفهة حضاريا تناسب جرائمه التي تحتاج منه أن يكون رائق البال بحق.. صدقني.. هذه رفاهية لا يملكها المواطن المصري..!!!
ثم قدَّرْتُ عند هذه النقطة أن (تامر) لن يفيدني كثيرا في المرحلة القادمة التي تحتاج تفكيرا هادئا، فربتُّ على كتفه، وبدأت أدفعه برفق إلى باب الغرفة وأنا أقول له:
- لقد أجهدتك معي خلال الأيام السابقة، فاذهب الآن لترتاح يا بني.. وسأستدعيك إذا احتجتك.. صحبتك السلامة!
كنت تقريبا أطرده، لكنه لم يبدِ دهشة أو مقاومة.. واضح أنه كان متعبا جدا وينتظر مني هذه المبادرة!!
* * * * *
مرت أكثر من ساعتين وأنا غارق إلى أذني في التفكير في هذه المشكلة العجيبة.. أخذت أستخدم الورقة والقلم لأخط أمام عينيّ كافة المعلومات المتوفرة لدي، فهذا يساعد كثيرا على بلورة الأفكار والربط بينها..
كان السؤال الكبير الذي يتأرجح في ذهني: هل هذه مجرد مشكلة من مشاكل المراهقة المتأخرة لا تستدعي القلق ويمكنني احتواءها بنفسي، أم أنها بادرة لجريمة - أو جرائم - خطيرة تستدعي اللجوء إلى الشرطة؟!
كنت أخشى التسرع فأفضح هذا الطالب الذي لم يثر أية مشاكل سابقا، ولا حتى الآن..! كما كنت أخشى أيضا أن أستهين بأمر يتطور لاحقا إلى ما لا تحمد عقباه فيكون الندم وقتها غير ذي فائدة..!!
وعندما دخل عامل النظافة إلى الغرفة سائلا إياي إن كنت سأبقى مطولا أم سأنصرف، كنت قد عزمت أمري على أن مواجهة (أحمد) صارت لازمة.. لكن بعد خطوة أخيرة كان يجب أن أقوم بها.. خطوة أحتاج فيها إلى مدام (حنان).
* * * * *
(5)
وهكذا نعود إلى المواجهة التي بدأتُ بها حكايتي؛ حيث كان (أحمد) ينظر إليَّ بعينين ملؤهما الحرج وهو يسألني:
- كيف عَرَفْت؟!!
- ليس مهما الآن كيف عرفتُ، ولكن المهم أنك اعترفتَ بما فعلتَ، فهل أنت مدرك أنك في مشكلة يا بني؟
أومأ برأسه إيجابا ببطء، فأتبعتُ قائلا:
- وهل لديك الرغبة في حل هذه المشكلة؟
بدت الحيرة الشديدة عليه، واجتاح الاضطراب قسماته، وسكت هنيهة قبل أن يتمتم:
- لا أعرف!!
- هل أنت مستمتع بما تقوم به من تعقب أولئك النساء؟ هل تخشى فقدان هذه المتعة؟!!
تصاعد صوت أنفاسه وهو يقول بشفتين مرتجفتين:
- ليس الأمر كما يبدو لك ولمن أخبرك.. صدقني..!!
أظهرت مزيدا من الهدوء لطمأنته، وقلت له:
- حسنا.. أنا أصدقك أن المتعة ليست وراء هذا السلوك؛ فما دافعك من التعقب العشوائي لبعض النساء من حين إلى آخر؟!!
أجابني مباشرة كمن يلقي ثقلا عن صدره:
- حمايتهن..!
صدمتني كلمته للغاية، ليس لغرابتها، ولكن لأنها بدت لي كالمفتاح الذي سيفتح لي باب الغرفة المظلمة في نفس هذا الشاب، خاصة بعد الذي سمعته من خالته..
كنت قد حصلت على رقم المنزل من مدام (حنان) دون أن أحكي لها المعلومات الجديدة التي أتى بها (تامر)؛ فغالبا كنت سأثير ذعرها لا أكثر.. بعدها تواصلت مع الخالة هاتفيا وحصلت على موعد لزيارة منزلية في غياب (أحمد)، وهناك دار حديث طويل بيننا حول تاريخه الأسري.. لذا شعرتُ أن الكلمة الأخيرة التي أطلقها الفتى هي تقريبا قطعة البازل الأخيرة التي كنت أبحث عنها لأكمل بها الصورة الغامضة أمام عيني..!!
ردَّدْتُ كلمته في دهشة متسائلة:
- حمايتهن؟!!
- نعم.. أنا أحميهن..!
- ولكن من ماذا؟!!
- لا أعرف.. أقسم لك..!!
- (أحمد).. احكِ لي من البداية.. ماذا يحدث بالضبط عندما ترى إحدى هؤلاء النساء؟
مضت لحظات صامتة أخرى لا يقطعها إلا صوت تنفسه اللاهث، قبل أن يقول بعينين زائغتين:
- أشعر بقوة خفية تدفعني إلى تتبع امرأة بعينها.. قوة تسلبني عقلي وتجعلني أشبه بالآلة.. قوة قاهرة تحركني وتخبرني أنني مسئول عن هذه المرأة ولا بد أن أتعقبها لحمايتها من أي خطر محتمل.. ولا تغادرني هذه الحالة وتعتق رقبتي إلا عندما أطمئن على أن هذه المرأة وصلت إلى منزلها بسلام وأمان.. مهما كان بُعد هذا المنزل..!!
ردَّدْتُ في نفسي مؤكدا على كلامه:
- صحيح.. حتى لو كانت الوجهة النهائية في (طنطا)!!
ثم سألته بصوت مسموع وقد قاربت الغوامض كلها على التكشف لي:
- وعلى أي أساس كنتَ تنتقي أولئك النساء؟! ما سبب اختيارك لهن بالذات؟!!
لم يغادر الشرود عينيه وهو يجيبني كالمنوم مغناطيسيا:
- لستُ أنا من يختار.. هناك دائما علامة ما تكون هي الشرارة الذي تشعل تلك القوة وتطلقها من أعماقي.. إشارة ما تصدر منها، وقد تختلف في كل مرة.. قد تكون نظرة، أو ابتسامة، أو حركة يد، أو تعبير بالوجه، أو حتى كلمة تنطقها بطريقة معينة.. لا أعرف ما المشترك بينها.. صدقني لا أعرف..!!!
اومأت برأسي متفهما، وقلت له بحروف واضحة حرصت أن يسمعها جيدا:
- أنا أعرف!
التفتَ إليَّ بنظرات تحمل أطنانا من الدهشة الممزوجة بالفضول وأنا أُرْدفُ:
- المشترك بين هذه الإشارات أنها تشبه بصورة ما نفس الحركات التي كانت تصدر منها.. أو هكذا تبدو لك على الأقل!!
ارتجفت شفتاه بشدة وبدأت الدموع تطفر من عينيه وهو يسأل:
- مِمَّن؟!!
- أمك!!
ردَّدَ بصوت مبحوح من شدة الانفعال:
- أمي؟!!
أومأت برأسي إيجابا وأنا أكشف أمامه ما بقي من الحقائق دفعة واحدة:
- لقد تحدثت إلى خالتك وعرفت ما كان يحدث من أبيك تجاه أمك عند الخلاف.. كيف كان شديد العنف معها.. كيف كان يضربها بمنتهى القسوة مع كل خلاف.. كيف كان كل ذلك يدور أمام عينيك وأنت طفل في السادسة عاجز عن مساعدتها.. وكيف أنك حاولت بالفعل ذات مرة أن تدفع عنها، ولكن أباك قذف بك إلى آخر الحجرة مسببا لك كسرا في ساقك!!
هنا بلغ انفعاله ذروته وصاح بوجه محتقن وعينين غزيرتي الدموع:
- لقد وعدتُها أنني سأحميها.. عندما أكبر سأحميها.. لكنها لم تنتظرني.. رحلت ولم تنتظرني!!!
ثم انفجر يجهش في بكاء حار..!
أخذت أتأمله بشفقة وتأثر شديدين وهو ينهنه في بكائه كطفل صغير..
هذه هي القصة..
الأم المسكينة عاجلها القدر بالفرار من دائرة عذابها، والأب القاسي فر بطريقته الخاصة.. حافظ على قسوته إلى النهاية.. أراد أن يبدأ من جديد بعيدا عن الابن الذي سيذَّكِّرُه دوما بالضحية التي طالما عانت من ساديته..!
لكن الابن المسكين ظل حبيسَ تلك الدائرة، حتى مع تقدمه في السن لم يستطع منها فكاكا.. كان عليه أن يدور باستمرار في حلقات من التكفير عن ذنب لم يرتكبه.. ذنب عدم حمايتها.. يحاول أن يعوض عجز الصغر بهذه الحماية الخادعة في الكبر.. كانت هذه حيلته العقلية لينال بعض الراحة من عذاب مشاهد الماضي التي لم تغادر ذاكرته قط..!!
أُدْرِكُ أن العلاج سيكون ممكنا بإذن الله.. ليس سهلا، لكنه ممكن.. طالما صارت طبيعة المشكلة وجذورها واضحة لدينا..
لكن...
كم من برعم أخضر يتم إفساده الآن بين أربعة جدران لينبت يوما كائنا ممسوخا أو محطما كالقابع أمامي؟!
كم من آباء يزرعون الآن ألغاما من ذكريات ستنفجر يوما في مستقبل تلك الكائنات البريئة الهشة التي تمرح حولهم؟!
لقد أخطأت حينما قلت أننا لا نملك قتلة متسلسلين؛ لأن لدينا منظومة مجتمعية كاملة، معتلة نفسيا ومشوهة خلقيا وممسوخة حضاريا، تقوم بعمل القاتل المتسلسل بكفاءة منقطعة النظير..
الجديد لدينا أن الغالبية الساحقة من أفراد هذه المنظومة المجتمعية هم تروس تعمل في صالح هذا القاتل الشمولي، وفي نفس الوقت.. هم ضحايا محتملين في قائمته..!

- تمت –

تم عمل هذا الموقع بواسطة