23 Mar
23Mar

وقتها كنتُ أقود سيارتي شاردَ الذهن؛ بالتأكيد كنتُ أفكر فيها وفي الحوار الوحيد الذي دار بيننا هاتفيا!
كان تعارفا تقليديا عن طريق أسرة مشتركة..
أنت تعرف كيف تسير هذه الأمور..
أنا صديق الزوج وهي صديقة الزوجة.. أنا مطلق وهي مطلقة.. العُمران متقاربان.. التخصصان متشابهان!
إذن ماذا بقي لتتحرك قوانين الطبيعة بكل قوتها دافعة الزوجين في الاتجاهين، حيث ينقل كل منهما المواصفات الرئيسية للطرف الذي يعنيه، وبعد القبول المبدئي - أو للدقة: عدم الرفض المبدئي - يتم تبادل أرقام الهواتف، وربما الصور الشخصية؟!
وهذا ما حدث معنا بالفعل، حتى وصلنا إلى ذلك الاتصال الهاتفي الذي استمر قرابة الساعة؛ وتم توسيع التعارف بقدر كبير، وبعدها بيومين جاء الرد بالاتفاق على لقاء يشمل الرؤية الشرعية مع مزيد من التعارف، ومن ثم مزيد من توغل كل منا في عالم الآخر!
أين كنا؟!
آه.. كنت أجلس داخل سيارتي شارد الذهن، وقد تركتُ مهمة القيادة لعقلي الباطن الذي يحفظ جيدا الطريق إلى ذلك الكافيه الشهير حيث مكان اللقاء!
لا أنكر أن هناك ما جذبني فيها..
كان جمالها هادئا مريحا للعين أضفى عليه الحجاب مزيدا من الرقة والرقي!
حديثها يحوي خلطة مميزة من العقلانية الناضجة والطِّيبة الحنون!
خفيفة الظل ذات مرح طفولي لا تخطئه الأذن!
كيف عرفتُ كل ذلك من حديثِ ساعة واحدة؟!!
صدقني.. هناك صفات يمكنك اكتشافها من عبارة متحمسة أو رأي سريع أو ضحكة خجلى أو حتى لحظة صمت، فضلا عن أن خبرة الزواج السابق للطرفين تذيب الكثير من حواجز التعارف الأول وتختصر المسافات سريعا!!
المهم أن كل ذلك كان يطوف بخيالي حتى تبدد فجأة عندما تنبهت لتلك السيارة التي تتحرك أمامي ببطء مستفز..
كنتُ - على الرغم من شرودي - أقود مسرعا لأتحرى الوصول في موعدي تماما؛ فقد كانت عبارتها الأخيرة تتردد في عقلي باستمرار: لا تتأخر عن الموعد؛ فأنا أحافظ على مواعيدي جيدا وأستاء ممن لا يفعلون!
وكنتُ قد تأخرتُ في المنزل بسبب العناية الفائقة بهندامي وتصفيفة شعري وزخات عطري لأقدم لها انطباعا أوليا جيدا، ولكن هذه العناية ذاتها أوشكت على التسبب في خسارتي لهذا الانطباع.. ولم أكن مستعدا لِأنْ يتسببَ هذا الأحمق في جعل تلك الخسارة مؤكدة؛ لذا أخذت أومض له بالمصابيح القوية لعله يفسح لي الطريق، وعندما تنبهت إلى كون قائد السيارة امرأة ازداد ضيقي؛ فأنت تعرف قيادة النساء!!!
وكما توقعت، لم تتحرك بالسرعة الكافية رغم إشعالها للإشارة الجانبية مبدية نيتها في التحرك جانبا.. لكني مشهور بقصر فتيلي كما يقولون، فلم أطق صبرا عليها، ورحت أضغط آلة التنبيه بتكرار مستمر، مما زاد من ارتباكها، وكان واضحا ترددها في التحرك إلى حارة أخرى من الطريق مع اندفاع السيارات المسرعة على جانبي حارتنا!!
هنا بلغ غضبي مبلغه وأنا ألعن أول من سمح للنساء بقيادة السيارات!! فزدتُ من سرعتي واندفعت بحركة مفاجئة لأتجاوز سيارتها وأنا أشيح لها بذراعي علامة الاستنكار والغضب!
وفي المرآة الوسطى لاحظت أن قيادتها ازدادت ارتباكا وخوفا من حركتي المباغتة فكادت تصطدم بسيارة أخرى وهي تتحرك جانبا بلا مقدمات!!
وبعد دقيقة واحدة وصلت إلى الكافيه، فصففت سيارتي بسرعة في ساحة الانتظار، لكني آثرت الدخول إلى الحمام أولا لاستعادة هدوئي والتأكد من حفاظي على تأنقي قبل اللقاء المرتقب.. ثم خرجت أبحث عن وجه صديقي الذي كان من المتفق أن يحضر اللقاء هو وزوجته، وسرعان ما لمحت ثلاثتهم يجلسون على إحدى الطاولات في طرف هادئ من المكان؛ فساءني أن وصلوا قبلي، وانصب ضيقي تلقائيا على قائدة السيارة من جديد!!
تقدمت منهم بهدوء وأنا أكابد فضولي كيلا أنظر إليها مركزا بصري على وجه صديقي، وأمام الطاولة صافحته وحَيَّيْتُ المرأتين برأسي مبتسما، قبل أن أقول موجها حديثي إليها ومحاولا التغطية على خفقات قلبي المتصاعدة:
- أعتذر عن التأخير، لعلكم لم تنتظروا طويلا!
لم تجبني هي، لكن صديقي قال بمرح مصطنع:
- لا يا سِيدي.. هي دخلت قبلك بلحظات، بينما من انتظر أنا والمدام!!
ثم قام هو وزوجته وهو يقول بضحكة أكثر اصطناعا:
- اسمحا لنا أن نترككما بعض الوقت.. سننتقل إلى هذه الطاولة القريبة لنستعيد بعضا من ذكريات الخطوبة بعيدا عن صخب الأولاد!!
شعرتُ ببعض الحرج متوقعا نفس الشعور لديها؛ فبحثت سريعا عما أبدأ به حديثي، قبل أن أقول مبتسما:
- أعتقد أن حديثنا السابق لم يكن كافيا ليُكَوِّنَ كلٌّ منا صورة متكاملة عن الآخر، لذا...
لكنها قاطعتني في بادرة لم أتوقعها قائلة بنبرة غير مفهومة:
- لكني عرفتُ عنك ما أحتاجه لتكوين صورة كافية لاتخاذ قراري!
لم أكن حتى تلك اللحظة قد نظرت إليها بشكل مباشر، لكن لهجتها الغريبة جَرَّأتني على ذلك، فوَجَّهْتُ بصري إليها لتصدمني نظرتها المحدقة فيَّ بثبات!
ارتبكت بشدة؛ وأنا اقول في نفسي:
- هذه ليست امرأة خجلى.. ولا حتى امرأة جريئة.. بل هذه امرأة غاضبة، لكن لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟!!
لكنها لم تتركني لحظة مع حيرتي - التي لا بد أن ملامحي صرخت بها -؛ فقالت مستطردة:
- لقد عرفتُ أنك شخص لا يحترم المرأة، ولا يُقَدِّرُ ضعفها، ربما يمكنك فعل ذلك معظم الوقت، لكنك تنساه مع الغضب، وواضح أنك ممن يعميهم غضبهم عن الاكتراث بمشاعر من أمامهم.. المشكلة هنا أن من أهم احتياجات المرأة الشعور بالأمان مع رجلها، وهذه الصفة كافية تماما لأن تنسف هذا الشعور.. هل تدرك كم من المواقف الحياتية التي تمر على الزوجة وتحتاج فيها إلى تقدير زوجها لها في لحظات الضعف والتعب والحزن وغيرها من المشاعر المتقلبة؟!! بالتأكيد تعرف؛ فقد كنتَ متزوجا يوما ما!!
أثناء هذا "الدُّش البارد" تبددت حيرتي وقد فهمت ما يجري، ومع ذلك سألت بغباء:
- هل كانت أنتِ...؟
- نعم.. كانت أنا!!
- لا أعرف ماذا ينبغي أن أقول!!!
قالت وهي تلتقط حقيبتها وتنهض واقفة:
- لا تقل شيئا، ولا تحاول حتى أن تعتذر؛ فصدقني أنت - بهذا الموقف - قدمتَ لي خدمة جليلة؛ فقد وفرت علي وقتا طويلا من التفكير وربما أنقذتني أيضا من التورط في علاقة فاشلة من جديد!!
ثم انصرفت مباشرة نحو مخرج المكان تُشَيِّعُها النظرات الذاهلة لصديقي وزوجته!!
* * * * *
هل عرفتَ الآن يا صديقي لماذا أتنحى بسيارتي مذعورا من أمام أي سيارة تقودها امرأة؟!! أرجو ألا تسخر مني لاحقا؛ فقد عرفتَ السبب!!!

- تمت -

تم عمل هذا الموقع بواسطة