23 Mar
23Mar

أخذ يتحسس تلك الحافظة التي انتشلها من راكب في إحدى الحافلات قبل أن يقفز منها، وهم أن يفتحها لاستكشاف محتوياتها، لكن سرعان ما بدت له هذه الفكرة غير صائبة على الإطلاق.. كان قريبا من جمع من الناس يقفون أمام إحدى الحدائق العامة، وقد شعر أنهم ينظرون إليه بنظرات الشك والاتهام؛ وكأنهم يعلمون ما اقترفه منذ قليل..!

وبعد لحظة من التفكير، قرر الدخول إلى الحديقة؛ ليرتاح من عناء العمل طوال النهار، ولم يلبث بالفعل أن ابتاع إحدى تذاكر الدخول، وما إن دخل إلى الحديقة حتى اتجه إلى ركنٍ منزوٍ فيها، وجلس على أحد المقاعد الحجرية، ثم أخرج الحافظة - بلهفة - ليفتحها ويعرف محتوياتها، لكنها.. كانت خاوية!!

أصيب بالإحباط والضيق لبعض الوقت، لكنه تناسى الأمر سريعا؛ فليست المرة الأولى التي يواجه فيها مثل هذا الموقف..

وأخذ يبدد السأم بالتجوال ببصره في أرجاء الحديقة، وابتسم - مرغما - وهو يشاهد أولئك الأطفال الذين يمرحون ببراءة، وتتعالى أصواتهم في مشاجرات حامية تمثل لهم أهم مشاكل الحياة في تلك اللحظات..

أثناء ذلك، كانت نظراته اللامبالية تطوف بالمكان عندما وقع بصره فجأة على مشهد جعله يلتفت إليه بكل كيانه، بل وينهض واقفا، ثم يتجه نحوه..!

كان مشهد سيدة عجوز - تنطق ملابسها الفاخرة بثرائها - وهي تطعم طفلا صغيرا يجلس في عربة أطفال أمامها.. ليس هذا ما أثار انتباهه في حد ذاته؛ وإنما تلك الحقيبة التي تضعها على المقعد الحجري بالقرب منها، وتوليها ظهرها أثناء انهماكها التام في إطعام الطفل..!

ووجد نفسه قد اقترب بالفعل، وبخفة وحذر قط يهم بسرقة قطعة لحم جلس على المقعد، وامتدت يده بسرعة - وبصوت منعدم تقريبا - نحو الحقيبة، في الوقت نفسه الذي أخذت فيه عيناه تجولان في المكان للتأكد من أن أحدا لا يراه..

ولكن...

يبدو أن مهنته أكسبت يده سرعة تفوق سرعة دوران عينيه في محجريهما؛ ففي اللحظة التي استطاع فيها معالجة قفل الحقيبة وفتحها بالفعل، وقع ناظره على عينين حادتين تحدقان فيه، يعلوهما حاجبان كثان منعقدان في صرامة، وبِرَدِّ فعلٍ طبيعي سحب يده من الحقيبة بحدة، وبنفس الحذر والصوت المنعدم؛ لئلا تنتبه إليه السيدة..

وكاد ينهض ويسرع مبتعدا عن المكان، لولا أن ابتعدت عنه عينا ذلك الرجل الجالس على أحد المقاعد القريبة المقابلة له..

تنفس الصعداء عندما انتقل الرجل بناظريه بعيدا؛ مما أشعره بأن ذلك الأخير لم يلحظ حركة يده؛ فقفزت يده بخفة ثانية نحو الحقيبة - التي صارت مفتوحة هذه المرة - وقلبت محتوياتها بسرعة فائقة لتتوقف عند إحداها..! كاد يقفز فرحا وهو يتحسس تلك الرزمة المالية التي قدر أنها تتخطى الأربعة آلاف من الجنيهات - كما يبدو من سمكها ومساحة أوراقها -، وقبض بيده على الرزمة المالية، وهم بإخراجها، ولكن..!

خفق قلبه فجأة بشدة بين ضلوعه..

لقد كان الرجل ينظر إليه هذه المرة.. لم يعد يشك في ذلك.. إذ رآه يحدق فيه وقد ازداد حاجباه انعقادا، وكأنه يقول له - في صمت - وبلهجة معاتبة:

- ألم أحذرك في المرة الأولى؟

لكن ما أدهشه أن رد فعله كان على عكس المرة السابقة تماما؛ إذ فوجئ بيده تتصلب داخل الحقيبة حول الرزمة المالية وقد بدأ العرق يتصبب على جبهته..

كان يشعر بخوف مبهم..!

خوف عجيب لم يشعر بمثله من قبل مع هاتين العينين الحادتين ونظراتهما النافذة التي نفذت إلى أعماقه لتعبث بقلبه وتجعله يخفق بعنف، حتى كاد يسمع صوت ضرباته اللاهثة..!

ومضت بضع ثوان على هذا المشهد الصامت، مرت عليه كساعات طوال، لم ينتبه خلالها إلى أي شيء حوله، حتى تناهى فجأة إلى سمعه صوت طفلة صغيرة تهتف بمرح:

- أبى.. هيا لنرحل، لقد حضرت أمي.

ورأى الطفلة وهي تقترب من ذلك الرجل، وكأن قدومها كان المنقذ له؛ فما إن التفت الرجل إلى الطفلة حتى ترك هو الرزمة المالية على الفور دون أن يعلم سببا لذلك، وانتزع يده من الحقيبة انتزاعا، متخليا عن حذره المعتاد..!

واجتمعت مشاعر الرهبة والخوف والتوتر بداخله؛ ليخرجها في زفرة ارتياح حارة.. وما إن فعل حتى التفتت العجوز إليه، وحركت ناظريها بينه وبين حقيبتها المفتوحة في شك وارتياب، فلم يسعه إلا أن قال لها بكلمات متعثرة:

- لقد.. لقد أردت تنبيهك إلى أن الحقيبة مفتوحة.

لم تزايلها نظرة الارتياب وهي تنظر إلى داخل الحقيبة، وعندما وجدت أن الرزمة المالية ما زالت موجودة بدا بعض الارتياح على وجهها، وهى تشكره على فعله.

وتذكر هو بغتة ذلك الرجل..

والتفت نحوه..

وكان ما فاجأه وجعل حدقتاه تتسعان ذهولا..

مشهد الرجل وهو يسير ببطء بجوار الطفلة قابضا على يدها بإحدى يديه، بينما يتحسس الطريق بواسطة عصا يمسكها بيده الأخرى.. تلك العصا التي لم ينتبه إلى استناد الرجل إليها طوال الوقت..!

نعم.. كان الرجل ضريرا.. فهو لم يره قط..!

حتى عندما نظر إليه.. كانت مصادفة.. مجرد مصادفة..!

ونهض واقفا في غضب، وكادت تقفز من عينيه دموع القهر وهو يرى الرجل يبتعد مسترشدا بابنته في السير..

راح يراقبهما بضع لحظات بعمق..

وهنا.. توقفت دموعه الغاضبة فجأة قبل أن تنحدر على وجنتيه..

لقد بزغت ومضة ما في عقله، لم تلبث أن انتشرت وأضاءت كل ركن في جسده وهو يسترجع كل ما حدث منذ ما يقل عن الدقيقتين..

وصرخ في أعماقه:

- يا إلهي.. لم تكن نظرات الرجل مصادفة.. لم تكن كذلك على الإطلاق..!

ثم أخذ يبتعد عن المرأة العجوز في سعادة متناهية؛ لأنه لم يحصل على المال...

لقد انفتح عقله المغلق فجأة وفهم الأمر على حقيقته..

فهم سبب ملاحقة نظرات الرجل له.. وعرف سر حدتها.. وسر الخوف العجيب الذي أصابه من جرائها ودفعها إلى ترك النقود..

إن عينيْ الرجل لم تنظرا إليه قط، بل كانت عينا أخرى..

عينا من السماء!

-تمت-

تم عمل هذا الموقع بواسطة