23 Mar
23Mar

أن ترى شريط حياتك بأسره أمام عينيك في ومضات خاطفة عند تعرضك لموت محقق.. هذا طبيعي ومنطقي، ويروي عنه الكثيرون - طبعا - ممن نجوا من مثل هذا الموت المحقق..!!!
لكن غير الطبيعي أن ترى أنتَ شريط حياة شخص آخر - في تلك الومضات الخاطفة - عند دنو ذلك الأخير من موت محقق!!!
هذا ما حدث لي.. وهذا ما سأسرده الآن...
* * * * *  
هنا في الكويت تنتشر جسور المشاة فوق الطرق السريعة Highways ؛ ذلك أن السيارات تنطلق على تلك الطرق بسرعات فائقة لا تعطي الفرصة في عبور آمن لمن أراد قطعها على قدميه..!
وفي تلك اللحظات الحاسمة - التي تشكل قصتي - كنتُ أنطلق بسيارتي على أحد تلك الطرق السريعة، عندما لمحتُ عبر المرآة الوسطى تلك السيارة الرياضية التي راح صاحبها يومض لي بمصباحي سيارته ومضات سريعة خاطفة للتنحي من أمامه.. ورغم سرعتي الكبيرة إلا أنني شعرت أنني أزحف بالنسبة للسرعة المرعبة التي مرقت بها سيارته بجواري، وفي جزء من الثانية لمحت صاحبها.. ولم يخب توقعي.. كان أحد الشباب المتحمسين كالعادة..!
ثم رجعت ببصري إلى الأمام ليفاجئني المشهد الذي أثار ذعري وجعل قلبي يقفز إلى حلقي...!
إنها تلك الخادمة.. خادمة هندية هي كما تنطق ملامحها ويشي طراز ملابسها.. جرّها حظها العاثر وفهمها المحدود إلى عبور الطريق في تلك اللحظة بالذات..!!
كانت على بعد 100 متر تقريبا.. وسيارة جاري تسبقني نحوها بسرعة 160كم/ساعة على أقل تقدير.. وبحسبة سريعة - مما درسناه في المرحلة الثانوية - كان الزمن الباقي على وصوله إليها ثانيتين..
فقط ثانيتان..!!!
لذا رحت أصرخ في أعماقي بذعر لا حدود له: استر يا رب.. استر يا رب.!!
لم يكن لدي أدنى شك في اصطدامه بها..
وقفز - بعين الخيال - المشهد المروع أمام ناظري..
مشهد الجسد الهزيل وهو يصطدم بالوحش المعدني الذي لا يرحم.. ثم يقفز في الهواء عاليا وبعيدا قبل أن يسقط أرضا بكل قسوة خاليا من الحياة والدماء تتناثر حوله..!!!
وهنا حدث شيء عجيب.. لم تمر الثانيتان كما تمر بقية الثواني في حياتي...!
بدا لي الزمن بطيئا بطيئا.. وكأنه يمهلني ما يكفي لأتالم وأتحسر قبل أن تقع الفاجعة...
أتألم للمصير المخيف لتلك المسكينة..!
وأتحسر على ضياع حياتها بسبب لحظة غباء..!
وبلا مبالغة مرت حياة تلك البائسة أمام عيني.. فقط في الثانيتين الباقيتين قبل نهاية حياتها....
* * * * *
0.2 من الثانية:
_________
تجلسين يا (شاندرا) مع زوجك أمام منزلكما الضيق أرجاؤه بعد يوم طويل مرهق من العمل في حقلكما الصغير.. ذلك الحقل الذي لا يكاد محصوله الشحيح يغنيكم من فقر ولا يسمنكم من جوع.. فما بالك برفاهيات الملبس والعلاج والتعليم..
في ضوء القمر الشاحب كوجهيكما تتهامسان كالمعتاد بشأن أحوال حياتكما البائسة، ومستقبل الصغار الخمسة الذين يرقدون متلاصقين في إحدى غرفتي البيت الوحيدتين..!

0.4 من الثانية:
_________
البؤس هو عنوان حياتك.. الظلام هو مستقبل أبنائك.. هذا ما تؤمنين به يا (شاندرا).. ولولا غريزة الأمومة الغامرة لديك وخوفك الشديد على القطط النائمة في الداخل لفكرتي ألف مرة يوميا في إنهاء حياتك الكئيبة..!

0.6 من الثانية:
_________
اليوم هو يوم سعدك يا (شاندرا).. بل هو أول ابتسامة تمنحك الحياة إياها بعد سنين طويلة من العبوس..
فاليوم زاركما ذلك الشاب من القرية المجاورة الذي يحمل في ذيله الخير دائما.. والذي يتمنى الجميع زيارته ليل نهار..
إنه - كما تعرفين - يعمل مندوبا لدى أحد مكاتب تسفير العمالة إلى دول الخليج.. إلى دول النفط.. إلى الحياة الرغدة والخير الوفير كما يقولون..!
هل نسيتي ذلك الطلب الذي تقدم به زوجك منذ شهور لدى ذلك المكتب؟

0.8 من الثانية:
_________
نعم.. هو ما تمنيتيه يا (شاندرا).. لقد صار الحلم حقيقة.. ولكنه تحقق على غير ما توقعتي.. المطلوب للسفر خادمة لا خادم..!
وصار لزاما عليكِ اتخاذ القرار الصعب.. القرار الثقيل على النفس..
ستتركين هؤلاء المساكين لأبيهم الذي امتلأ جسده بالعلل ولا يكاد يقدر على العناية بنفسه..!
لكن لا خيار هنالك.. ستتركينهم من أجلهم.. ستحرمينهم دفأك أملا في توفير حياة كريمة ترفعهم لمصاف البشر..!

ثانية واحدة:
_________
ما أشد ألمك يا (شاندرا) وأنتِ تودعين زوجك الذي يبتسم لك مشجعا ومطمئنا إياكِ على أبنائك.. لكنها ابتسامة مرتجفة بطعم الدموع..!
ما أشد تمزقك وأنت تودعين صغارك بنظراتهم الحيرى التي لا تعي المستقبل.. لكنها تخشاه كالموت..!
إنك ستختفين من هذا البيت.. من هذه الأسرة.. من هذه الحياة.. لا بد إذن أنها نهاية الكون.. هذا ما شعروا به وهم يرمقون نظراتك الباكية عبر زجاج السيارة التي تبتعد مثيرة غبارا كثيفا وراءها.. نفس الغبار الذي يغلف حياتكم الآن..!!

1.2 ثانية:
_________
تخرجين من مطار الكويت الدولي في تلك الحافلة التابعة لمكتب التخديم الذي استقدمك.. والتي تعج بـ(شاندرات) أخريات بائسات..
البعض يتطلعن بانبهار عبر الزجاج إلى الشوارع الواسعة النظيفة والمنازل الكبيرة الأنيقة.. لا بد أن هذا عالم رائع جديد ينتظرهن..!
والبعض الآخر يجلسن - مثلك - غافلات عن كل ذلك بالخوف من القادم.. مهما كان يبدو سعيدا، إلا أنه مجهول.. والمجهول غالبا مخيف..!

1.4 ثانية:
_________
الآن مر يومان كاملان على وصولك يا (شاندرا).. إلا أنك ما زلت تجلسين في صمت على أحد مقاعد مكتب التخديم.. تتجرعين في كل ساعة مرارة المهانة وألم الدونية.. شعور الأَمَة التي تباع في سوق النخاسة.. أنتِ لم تجربيه، لكن لا بد أنه كذلك..!
من ساعة إلى أخرى يأتي أحد الزبائن لاختيار خادمة مناسبة لبيته.. ويتفحص فيكِ وفي رفيقاتك بتمعن، ثم لا يلبث - بعد نقاش ومداولة مع مدير المكتب - أن ينصرف بعد الاتفاق على بغيته..!
متى يأتي سيدك لينهي تلك الساعات القميئة الكئيبة..؟!
فلتأملي أن يوقعك حظك مع أسرة طيبة رحيمة تعاملك كإنسان لا كشيء آخر..!

1.6 ثانية:
_________
الآن يا (شاندرا) تخطين خطواتك الأولى إلى منزل مخدومك.. وها هي ذي زوجته تستقبلك بحفاوة مبشِّرة.. يبدو أن ما ثرثر به السائق - ابن وطنك - أثناء قدومك كان صحيحا..
هذه أسرة طيبة رحيمة كما تمنيتِ تماما.. لكن هل تبتسم الحياة ثانية بهذه السرعة؟ أنتِ لم تخبري منها سوى الوجه العابس.. لكن لم لا؟
فلتترقبي ما تأتي به الأيام...!

1.8 ثانية:
_________
اليوم مر على وصولك بضعة أشهر.. ورغم طيبة مخدومَيْكِ إلا أنك تأنين ليلا من شقاء العمل المتواصل طوال النهار من جراء طلبات الأبناء المستمرة بلا توقف..
اصبري يا (شاندرا)؛ فعبء العمل يخففه المقابل المادي الذي ترسلينه كله تقريبا إلى أسرتك شهريا.. يخففه السعادة التي تبدو في أصواتهم كلما كلمتيهم عبر الهاتف...!
لكنك لا تجدين ما تخففين به مشاعر الحنين الجارفة إلى الأسرة والوطن التي تثقل روحك يوما بعد يوم..
صحيح أن هنا حياة رغدة.. لكن هناك الوطن..!      
صحيح أن هنا شارع نظيف ومسكن مريح.. لكن هناك الوطن..!
صحيح أن هنا طعام طيب وملبس نظيف ومال وفير.. لكن هناك الوطن..!

ثانيتان:
_________
استعدي يا (شاندرا).. بقيت أيام معدودة وتتمي العام الأول في الغربة.. هذا يعني لكِ الكثير.. فحسب اتفاق العمل، سوف تسافرين إلى وطنك حيث الزوج والأبناء.. حيث الحياة التي لا تغني عنها أية حياة..!!
وها أنتِ ذي تعبرين الطريق في سعادة إلى حيث السوق لتشتري بعض الهدايا لأسرتك الحبيبة.. لكنك في غمرة أحلامك السعيدة غفلت عن واقعك؛ فاقترفتي أكبر خطأ في حياتك..!!
وها هي ذي سيارة تتجه نحوك بسرعة مخيفة لا يجدي معها أية محاولة للفرار..!
ربما لهذا أصاب الشلل قدميك وعجزت حنجرتك حتى عن الصراخ..!
وآخر سؤال سألتيه لنفسك: من سيذهب بالهدايا إلى أبنائي؟!!!!
* * * * *
انتهت الثانيتان.. والمفترض - وفقا لأي حسابات منطقية - أن تنتهي معهما حياة المرأة..!
لكن يبدو أن شللها المؤقت حمل لها النجاة.. فقد استطاع الشاب أن ينحرف عنها بسنتيمترات قليلة في حركة ماهرة لم أكن لأصدقها لولا معاينتها بنفسي..!
ومر السهم بجوارها دون أن يمسها.. ثم مررت أنا بجوارها وقد كان لدي من الوقت بطبيعة الحال لأتفاداها بسهولة..
لكن قلبي المرتجف لم يهدأ إلا بعد أن اطمأننت - عبر المرآة الوسطى في سيارتي - إلى أن المرأة عبرت الطريق سالمة من أي كارثة معدنية أخرى...!!
وردّدت في نفسي في راحة وشبه هذيان: الآن تعودين إليهم يا (شاندرا)!

- تمت -

تم عمل هذا الموقع بواسطة