23 Mar
23Mar

شَعَرَت باختناق مع كل ما يتم تداوله من حولها عن العملية التي تدور الآن في سيناء.. حيث كانت فرقة من القوات المسلحة تطارد خلالها مجموعة إرهابية هاجمت موقعا عسكريا منذ أيام..
الجميع يتحدث عن الموضوع.. طوال الوقت تتناثر حولها التسؤلات والآراء والتحليلات.. في البيت.. في المواصلات.. حتى هنا في مقر العمل - حيث من المفترض أن الجميع منشغل للغاية - لا تسلم أذناها من التعليقات العابرة حول الحدث الذي يشغل المجتمع بأسره..!!
لم تستطع الاحتمال أكثر من ذلك، فاستأذنت من مديرها في الانصراف مبكرا غير عازمة على العودة إلى البيت؛ فهناك ستحاول كل من أمها وأختها الصغرى أن يطمئناها..
لكن طمأنتهما لن تزيدها إلا قلقا وتوترا..!
لقد سافر ضمن تلك العملية - كواحد من جنود المهمة - منذ يومين بعد وداع هاتفي بينهما.. ومن ساعتها وقلبها المضطرب لا يهدأ لحظة من تلك الهواجس التي تتناوش نفسها بلا رحمة..!
ولم تجد أمامها سوى الذهاب إلى هناك..!

* * * * *

اتخذت مقعدها في الكافيتريا التي اعتادا الالتقاء فيها منذ تم عقد قرانهما..
يجلسان فيها ليتسامرا بالساعات غير شاعرَيْن بمرور الوقت..
هذه المرة تعرف أنه لن يأتي.. ورغم ذلك طلبت فنجانين من القهوة التي يعشقانها سويا..
وتنشقت الرائحة الزكية التي انسابت خلسة من أنفها إلى عقلها لتفتح البوابة على مصراعيها.. فتندفع من ورائها الذكريات مستدعية في ومضات خاطفة كل ما فات..
مشهدهما وهما صغيرين يلهوان ببراءة في الشارع..
كان أهلها ينظرون للأمر في البداية على أنه صداقة طفولة لا قلق منها..
ثم - عندما بدأت معالم الأنوثة تطرق أبوابها - أخذت أمها تنهاها عن ذلك بلطف..
وعندما ارتدت حجابها لأول مرة أدركت الأمر على حقيقته وامتنعت من تلقاء نفسها.. بينما لم يمتنع قلبها عن الخفقان لرؤيته من بعيد أو حتى عند تذكره..
لكنه لم يلبث أن تقدم لخطبتها ليتوج حبهما بالرباط الشرعي.. وتم عقد القران سريعا على أن تتم مراسم الزواج عقب انتهائه من أداء خدمته العسكرية..
كانت الأسرتان متوسطتا الحال، وكانت أحلامهما بسيطة وطموحاتهما أكثر بساطة..
كم شهدت هذه الطاولة أحاديثهما الهامسة المفعمة بالأمل في غد سعيد، عندما يجمعهما بيت الزوجية..
كانت تحكي له عما تنوي فعله في شقتهما الصغيرة التي وفرها والده له بشق الأنفس..
كيف سيتشاركان سويا استكمال أثاث شقتهما بالتدريج.. هو بعمله في ورشة والده.. وهي بعملها الذي التحقت به بعد انتهائها من دبلوم التجارة..
كيف ستزين أرجاء بيتهما بنفسها قطعة قطعة..
وكان يحكي لها عن حلمه في الاستقلال بورشة خاصة تكبر مع الأيام..
وعن تصوره لأول طفل سيرزقانه..
كيف سيرعيانه سويا.. وكيف سيبذلان كل ما يملكان لتربيته تربية صالحة.. ولتعليمه أفضل تعليم.. لن يبخلا عليه بشيء.. سيقدمان له كل ما يملكان في مقابل السعادة التي سيغمر
بيتهما بها عند مجيئه..
وابتسمت رغما عنها وهي تتذكر كم كانا يكرران نفس الأحاديث.. ونفس الأحلام كل مرة.. وكأن جلوسهما سويا وتشاركهما هذه الأحلام متعة في حد ذاته..!
وفجأة.. انتفضت بقوة عندما انتزعها من ذكرياتها رنين هاتفها حتى أنها قلبت فنجانها بحركتها المفاجئة؛ فانسكبت القهوة على الطاولة، وانسكبت معها أفكارها وذكرياتها..
التقطت هاتفها بيد مرتجفة من حقيبتها وهي تنظر بقلق إلى رقم الطالب، وانقبض قلبها بشدة عندما رأت رقم هاتف أختها..!
ظلت تحدق في الهاتف بملامح متحجرة وقد نهاها قلبها عن الرد؛ وكأنه يخشى أن ينفطر مما سيسمع..!
واستمر رنين الهاتف حتى انقطع.. ثم عاد مرة أخرى يدوي بإلحاح.. وقلبها الواجف ما زال يمنعها عن الاستجابة له..!
وأثناء ذلك سادت المكان حركة غير عادية.. ولاحظت أن نظرات رواد الكافيتريا كلها تتعلق باهتمام بالشاشة المسطحة المثبتة على الجدار خلفها..
فالتفتت بفضول شديد نحوها وقد تنبأ قلبها بما ستراه..
كان الإرسال العادي قد انقطع، وقد ظهر متحدث رسمي عن الجيش وهو يتحدث عن نتيجة العملية الأخيرة..!
العملية التي يشترك فيها زوجها وحبيبها وشريك أحلامها..
العملية التي راحت تتخيل أحداثها - بعين الخيال - بصورة حطمت أعصابها خلال اليومين السابقين.. وهو ما جعلها تخشى الرد على أختها.. كان الذعر يملأ كيانها مما يمكن أن تسمعه.. لا بد أن الخبر وصل رسميا إلى أهل زوجها وانتقل إلى بيت أهلها..!
لم تجرؤ على الرد.. لا يمكنها تصور الخبر المخيف..!!
وأفاقت مرة أخرى على البيان الموجز الذي ختمه المتحدث الرسمي بقوله:
- هذا وقد تمت العملية بنجاح.. بعد فقدنا الشهيد (..............)!
وجاءت اللحظة التي فرت منها طويلا.. ورغم توقعها للخبر، لم تستطع تحمل وقعه عليها ولا استيعابه..!
وعندما بدأت الدنيا تغيم أمام عينيها.. صكت سمعها عبارة هتف بها أحد رواد المكان بسعادة متناهية:
- الحمد لله.. العملية عدت على خير.. وواحد بس اللي مات..!

-تمت-

تم عمل هذا الموقع بواسطة